نكبة مستمرة.. قراءة تحليلية في تحولات المأساة الفلسطينية

في الذكرى السابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني، يتحوّل "المتحف الـ77 للنكبة" إلى مرآة حية تعكس طبقات متراكمة من المعاناة، وتوثّق عبر معروضاته المحملة بالرموز والأرقام سردية ممتدة من التهجير إلى المجازر، ومن الحصار إلى الموت البطيء. هذه الذكرى ليست مجرد لحظة استحضار للماضي، بل أداة لقراءة واقع متفجر، تتكرر فيه النكبة بأساليب جديدة، ومآسٍ محدثة، ومعاناة لا تنتهي.
أولاً: جذور النكبة والتهجير القسري
بدأت مأساة الفلسطينيين عام 1948، حين تم تهجير نحو 957 ألف فلسطيني قسراً من أصل 1.4 مليون، موزعين على أكثر من 1,300 قرية ومدينة، نتيجة العدوان الصهيوني. لم يكن التهجير فقط إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول المجاورة، بل أيضًا داخل أراضي ما أصبح لاحقًا "دولة الاحتلال"، حيث أُجبر عشرات الآلاف على العيش كلاجئين داخل وطنهم.
وتمت السيطرة على 774 قرية ومدينة فلسطينية، دُمرت منها 531 بالكامل، وأُخضعت البقية لسياسات تهويد واستيطان، مع ارتكاب أكثر من 70 مجزرة موثقة، أودت بحياة ما يزيد على 15 ألف شهيد. هذا التهجير لم يكن حالة طارئة، بل سياسة ممنهجة تم تنفيذها بقوة السلاح والتطهير العرقي.
ثانياً: النكبة المستمرة – من 1948 إلى 2025
رغم سبعة عقود ونيّف من النكبة، لم تتوقف مأساة الشعب الفلسطيني، بل تضاعفت. تشير التقديرات السكانية إلى وجود 15.2 مليون فلسطيني عام 2025، منهم 7.8 مليون لاجئ خارج فلسطين، و7.4 مليون داخل أراضي فلسطين التاريخية، يقابلهم عدد مشابه من اليهود، وفق إحصاءات الطرفين.
خلال هذه العقود، فُرضت موجات تهجير إضافية، أبرزها بعد نكسة عام 1967، التي أدت إلى تهجير أكثر من 200 ألف فلسطيني إضافي. وقد استُشهد منذ 1948 حتى مايو 2025 أكثر من 154 ألف فلسطيني، بينهم نحو 64,500 شهيد منذ عام 2000، ونحو 52,600 شهيد في العدوان المستمر منذ 7 أكتوبر 2023 فقط، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
ثالثاً: غزة – جحيم مفتوح على مرأى العالم
قطاع غزة اليوم ليس مجرد بقعة محاصرة، بل مساحة ميتة تتحلل فيها الحياة. تشير التقديرات إلى تهجير نحو مليون فلسطيني داخلياً، يعيشون في ظروف لا تصلح للوجود الإنساني. تعرّضت أكثر من 330 ألف وحدة سكنية للدمار الكلي أو الجزئي، أي ما يفوق 70% من المساكن، فيما تعرّضت 68,900 مبنى للدمار الكامل، مع تضرر المدارس والجامعات والمستشفيات والبنية التحتية، ما يجعل غزة غير صالحة للسكن.
الجوع والعطش حوّلا القطاع إلى مقبرة مفتوحة، حيث يعاني أكثر من مليونَي فلسطيني من خطر المجاعة، بينهم 335 ألف طفل دون الخامسة يواجهون سوء تغذية حاد. لا يحصل الفرد إلا على 3-5 ليترات من المياه يومياً، وهي نسبة أقل بكثير من الحد الأدنى الإنساني المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية (15 لتراً يومياً).
رابعاً: الضفة الغربية – احتلال زاحف وتفتيت دائم
الضفة الغربية ليست بأفضل حال. فقد بلغت المواقع الاستعمارية الإسرائيلية فيها حتى نهاية 2024 551 موقعاً استيطانياً، بينها 151 مستعمرة و256 بؤرة استيطانية. عدد المستوطنين تجاوز 770 ألفاً، يشكلون عبئاً ديموغرافياً وسياسياً على الوجود الفلسطيني، خاصة في القدس، حيث يُقدّر عددهم بأكثر من 336 ألفاً.
خلال عام 2024 وحده، تم الاستيلاء على أكثر من 46,000 دونم من الأراضي الفلسطينية تحت ذرائع قانونية مزيفة كـ"أوامر استملاك" و"توسيع محميات طبيعية". كما سُجّل أكثر من 16,600 اعتداء من المستوطنين والجيش على الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم، منها ما يزيد عن 14,000 شجرة تم اقتلاعها، معظمها من الزيتون – رمز الصمود والهوية.
خامساً: النكبة اليوم – نكبة في كل بيت
النكبة لم تعد حدثاً ماضوياً، بل واقعاً متكرراً يُبث على الهواء مباشرة. إنها نكبة في صورة طفل يلفظ أنفاسه جوعاً في خيمة، وأم تودع أبناءها تحت أنقاض منزلها، ومزارع يُمنع من دخول أرضه. إنها نكبة متحركة، بلا نهاية، يكررها التاريخ تحت صمت دولي وشلل عربي، وتوثقها أرقام المتحف الـ77 كأنها لوحة مستمرة من الألم.