بعد أن أدارت واشنطن ظهرها لها.. أوروبا تتقارب مع الصين «على مضض»

تُمثل طموحات الصين العالمية تحديات استراتيجية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الثانية محقة في استمرار موقفها المتشدد تجاه الصين، ومع ذلك يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا إيجاد تسوية مؤقتة إذا أرادتا مواجهة تحديات الصين بفاعلية.
وقد أوضح صناع سياسات وخبراء وقادة أعمال أوروبيين، أنه في ضوء الخلاف الجديد عبر الأطلسي، بشأن الرسوم الجمركية وقضايا أخرى، فإنهم يساورهم قلق متزايد من أن الولايات المتحدة تُدير ظهرها لهم، لذلك يفكرون كثيراً في التقارب مع الصين.
ولفهم كيفية تطور نهج أوروبا تجاه بكين، فهناك أربعة اتجاهات جيوسياسية أوسع نطاقاً شكّلت السياسات الأوروبية تجاه الصين في السنوات الأخيرة، وستستمر هذه الاتجاهات في التأثير في كيفية تطورها في الأشهر والسنوات المقبلة.
المنافسة المتصاعدة
يشعر الأوروبيون بشكل متزايد بأنهم عالقون في خضم المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، وأدى طموح الصين لإعادة تشكيل النظام الدولي - وفق أسسها - إلى تعميق التوترات مع الولايات المتحدة، ما دفع واشنطن إلى التحول من المشاركة إلى التوازن الاستراتيجي منذ عام 2017، ويعكس هذا التحول من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - الذي استمر إلى حد كبير في ظل إدارة الرئيس السابق جو بايدن - إجماعاً بين الحزبين على وضع الصين في قلب الاستراتيجية الأمريكية الكبرى، وعلى الرغم من اختلاف نبرته وتركيزه على التنسيق مع الحلفاء، فإن الرئيس السابق بايدن، حافظ على عناصر رئيسة من استراتيجية ترامب، مثل القيود التجارية، وضوابط التكنولوجيا، والجهود السياسية والعسكرية لمواجهة النفوذ العالمي للصين. أما إدارة ترامب الثانية فقد انتهجت مساراً أكثر تصادمية، مع تركيز واضح على الانفصال الاقتصادي، وتصعيد حاد للرسوم الجمركية (فرض رسوم جمركية بنسبة 145% على معظم السلع الصينية، تلته إجراءات انتقامية من الصين بنسبة 125%، ثم اتفاق لخفضها إلى 30% و10%)، وتعكس هذه الخطوات، استراتيجية اقتصادية أوسع نطاقاً قائمة على مبدأ «أمريكا أولاً» لخفض العجز التجاري، وحماية الصناعات الأمريكية من ممارسات الصين التجارية غير العادلة، وارتفع العجز التجاري الأمريكي مع الصين، من أقل من مليار دولار في عام 1985، إلى نحو 300 مليار دولار في عام 2024، مع اعتماد بكين بشكل كبير على السوق الأمريكية التي تستوعب 14% من صادراتها.
وتحذر منظمة التجارة العالمية من احتمال انخفاض تجارة السلع الثنائية بنسبة 80% في حال تسارعت وتيرة الحرب التجارية وانفصال الاقتصاد العالمي.
وكان الاتحاد الأوروبي حذراً بشأن عدم الانجرار إلى المنافسة الثنائية بين واشنطن وبكين، ومع إدراكه للتحديات النظامية التي تشكلها طموحات الصين العالمية، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى حماية مصالحه الاقتصادية، واستقلاليته الاستراتيجية.
وفي الوقت نفسه، يشعر صانعو السياسات في الاتحاد الأوروبي بقلق من أن التداعيات المتزايدة للتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين - خصوصاً الطاقة الإنتاجية الفائضة الصينية التي تغمر الأسواق العالمية - قد تضر بالصناعات الأوروبية الرئيسة.
وبينما يدعم البعض في بروكسل تعميق التعاون والتقارب مع بكين، يحذر آخرون من أن هذا قد يضر بقدرة أوروبا التنافسية على المدى الطويل واستقلالها السياسي، وستكون موازنة هذه الضغوط المتنافسة محورية في استراتيجية الاتحاد الأوروبي المتطورة تجاه الصين.
شكوك متزايدة
تساور أوروبا شكوك متزايدة بشأن استمرار مشاركة الولايات المتحدة عالمياً، وكضامن للأمن الأوروبي، فمنذ العقد الثاني من القرن الـ21، أثار الاستقطاب الداخلي الأمريكي والانكفاء العالمي الذي بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، واشتدّ خلال عهد ترامب، الكثير من المخاوف، فقد كان تحوّل أوباما الاستراتيجي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ إشارة إلى أن واشنطن لم تعد ترغب في تركيز استراتيجيتها الكبرى على أوروبا والشرق الأوسط.
وشهدت ولاية ترامب الأولى تراجعاً إضافياً عن التعددية والتحالفات التقليدية، ما أثار تساؤلات حول الالتزامات الأمنية الأمريكية في أوروبا، مع تكرار المخاوف التي استمرت لعقود، بشأن تقاسم الأعباء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكشفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا - بشكل أكبر - مدى اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في دفاعها.
كما قلّصت إدارة ترامب الثانية بسرعة مشاركاتها العالمية، وشككت في دعم أوكرانيا، وسعت إلى التقارب مع روسيا، وفرضت رسوماً جمركية على صادرات الاتحاد الأوروبي (25% على السيارات والصلب والألمنيوم، و10% على غيرها)، وقد عمّقت هذه الخطوات الخلافات السياسية والاقتصادية والأمنية بين واشنطن وبروكسل، ما دفع أوروبا إلى إعادة تقييم استراتيجي.
وفي حين يدعو البعض في أوروبا إلى إعادة ضبط «براغماتية» للتقارب الاستراتيجي المحتمل بين الاتحاد الأوروبي والصين، يحذّر آخرون من أن التحديات الاقتصادية الهيكلية التي تواجهها الصين تُقوّض جدوى هذا النهج، ما يجعل إبرام صفقة كبرى مع الصين أمراً غير قابل للتنفيذ، ولايزال هؤلاء يعتقدون أن التعاون عبر الأطلسي هو الطريق إلى الأمام، وتشير أحدث صفقة معادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، إلى شعور بالتفاؤل بشأن مستقبل العلاقة عبر الأطلسي.
الحرب الروسية - الأوكرانية
شكلت حرب روسيا على أوكرانيا اعتداء مباشراً على البنية الأمنية الأوروبية، وعلى النظام الأوروبي الذي نشأ بعد الحرب الباردة، والمبادئ الأساسية للسلام الدولي، والسيادة والديمقراطية. وبالنسبة للأوروبيين، فقد كشف هذا الحدث حقيقة وجود مُعتدٍ على أعتابهم، ما أبرز هشاشة البنية الأمنية القائمة.
وأثار دعم بكين السياسي والاقتصادي لموسكو قلق صانعي السياسات الأوروبيين، مسلطاً الضوء على دور الصين المتنامي كداعم استراتيجي لروسيا في حربها على أوكرانيا، وقد وفّر دعم بكين الاقتصادي والسياسي القائم على «شراكة بلا حدود» التي وُقّعت قبل أيام قليلة من الحرب في أوكرانيا، طوق نجاة لموسكو، ما قوّض فاعلية العقوبات الغربية.
وأثار ذلك في الوقت نفسه، مخاوف بشأن البنية التحتية التي بنتها الصين في جميع أنحاء القارة وتهديداتها للأمن الأوروبي، وبالنظر إلى التحديات الأخيرة في العلاقات عبر الأطلسي، فإن عزم أوروبا على الحفاظ على موقف حازم تجاه الصين يتضاءل.
وبينما لايزال العديد من صانعي السياسات ينظرون إلى بكين على أنها منافس نظامي يشكّل مخاطر طويلة الأجل على الأمن الأوروبي والقيم الديمقراطية، أصبح آخرون الآن أكثر انفتاحاً على المشاركة الاستراتيجية، ويدعون إلى إعادة تقييم العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين، في ظل مشهد جيوسياسي متغيّر.
الاتحاد الأوروبي
أصبح التحدي الاقتصادي والتكنولوجي المتنامي الذي تواجهه الصين يشكل تهديداً كبيراً للأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، فقد أدى التوسع العالمي للصين في نموذجها الحكومي الذي يتميز بالدعم وقيود السوق، ونقل التكنولوجيا القسري، إلى تقويض المنافسة العادلة، وإجهاد صناعات الاتحاد الأوروبي، ورداً على تباطؤها الاقتصادي، زادت الصين تصدير الطاقة الصناعية الفائضة إلى أوروبا، لاسيما في قطاعات مثل الطاقة المتجددة، ما وضع ضغوطاً على قطاعات أوروبية رئيسة، وبينما روّجت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لاستراتيجية «تخفيف المخاطر»، فإن الاتحاد الأوروبي لايزال منقسماً على نفسه.
وتقاوم بعض الدول الأعضاء اتخاذ تدابير أكثر صرامة، نظراً لاعتمادها الاقتصادي على الصين، أكبر المصدّرين لأوروبا (21%)، وثالث أكبر سوق للصادرات الأوروبية (8%)، وعلى عكس الولايات المتحدة التي فرضت ضوابط صارمة على التكنولوجيا والاستثمار، اتخذ الاتحاد الأوروبي نهجاً أكثر حذراً وابتعاداً عن المواجهة.
وعلى الرغم من أن الأدوات الجديدة، مثل تنظيم الدعم الأجنبي، وآليات مكافحة الإكراه، قد وسّعت نطاق أدوات السياسة في الاتحاد الأوروبي، فإنها غالباً ما تتجنب الإشارة مباشرة إلى الصين باعتبارها مصدر القلق الرئيس، وقد أثارت جهود أكثر حزماً، مثل تحقيقات مكافحة الدعم في السيارات الكهربائية الصينية، خلافات وانقسامات داخلية كبيرة، ما يعكس تفاوتاً في المصالح والتعرض للمخاطر بين الدول الأعضاء.
ومن الواضح أن التقارب التاريخي بين الاتحاد الأوروبي والصين، مطروح على الطاولة، وفي حين أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين، ودعم الصين لروسيا في حربها في أوكرانيا، وتحديات القدرة التنافسية التي تواجهها الصين، تدفع صانعي السياسات الأوروبيين نحو مواصلة استراتيجية الاتحاد الأوروبي للحدّ من المخاطر وتحقيق التوازن، فإن الكثير من ذلك سيعتمد على ما إذا كانت الولايات المتحدة ستظل منخرطة عالمياً ومع أوروبا، وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يواجهان طموحات الصين وتحدياتها المتزايدة، فلا يمكن للشركاء عبر الأطلسي مواجهة بكين إلا معاً، ويجب على واشنطن وبروكسل إيجاد تسوية مؤقتة بشأن التجارة والأمن، وتوحيد الجهود لمواجهة نفوذ الصين، وإصلاح النظام الدولي القائم على القواعد وتعزيزه.