اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

ميس رايتشل.. من تعليم الأطفال إلى الدفاع عنهم.. كيف تحوّلت أيقونة الطفولة إلى صوت يحتج على حرب غزة؟

 ميس رايتشل
محمود المصري -

في لحظة فاصلة، وجدت "ميس رايتشل" نفسها على مفترق طرق لم تكن قد خططت لبلوغه. تلك المعلمة الافتراضية ذات الابتسامة الوديعة، والوجه الطفولي المألوف لملايين الأطفال حول العالم، خرجت من الإطار الآمن لبرامج الطفولة البريئة إلى فضاء مليء بالتجاذبات السياسية والاتهامات العنيفة، حين قررت أن تدافع بصوت واضح عن الأطفال الفلسطينيين في غزة.


رايتشل أكورسو، المعروفة بـ"ميس رايتشل"، كانت رمزاً للأمومة الرقمية الآمنة، وجزءاً من روتين يومي لملايين الأسر. بربطة شعرها الزهرية وقمصان الجينز، كانت تُمثل نموذجاً بسيطًا وعذبًا يُخاطب عقول الأطفال وقلوب ذويهم، بعيداً عن أي جدل سياسي أو موقف مثير للانقسام. لكن مع تصاعد العدوان على غزة منذ أكتوبر 2023، اختارت رايتشل أن تكسر هذا الصمت الذي التزمه كثيرون، لتعلن بوضوح أن الأطفال الفلسطينيين يستحقون أن يُسمع صوت معاناتهم، شأنهم شأن أي طفل في العالم.

من الطفولة إلى المأساة: تحوّل في الخطاب


منذ بداية عام 2024، بدأت رايتشل تنشر فيديوهات ومشاركات تتحدث فيها عن الواقع الإنساني المأساوي في غزة، مستهدفة جمهور البالغين لا الأطفال، ومفصولة تمامًا عن محتواها التعليمي المعتاد. لكن ذلك لم يحمِها من الهجوم. فسرعان ما وُوجهت بموجة من الانتقادات، تتراوح بين اتهامها بـ"الانحياز ضد إسرائيل"، وصولًا إلى اتهامات بمعاداة السامية بل وحتى دعوات رسمية للتحقيق معها.


في مقابلة إعلامية مع مهدي حسن، قالت رايتشل بكل وضوح: "الصمت لم يكن خيارًا"، معتبرة أن الحديث عن معاناة الأطفال ليس موقفًا سياسيًا بقدر ما هو واجب إنساني. هذه الجملة اختزلت حجم التحوّل في شخصيتها العامة: من مقدمة محتوى ترفيهي وتعليمي، إلى ناشطة ضمير تواجه بحرًا من الاتهامات.

الأزمة تتصاعد: تضامن وشيطنة


أثار موقفها تعاطفًا لدى شريحة واسعة من المتابعين الذين رأوا في صوتها "الضمير الحي" لمجتمع تَعوّد على التزام الصمت أمام صور الأطفال المذبوحين في نشرات الأخبار. جمعت رايتشل أكثر من 50 ألف دولار لصالح "أنقذوا الأطفال"، واستمرت في نشر صور وقصص عن أطفال فلسطينيين فقدوا أطرافهم أو ذويهم.


لكن في المقابل، دخلت مجموعات ضغط إسرائيلية على الخط، مطالبة وزارة العدل الأمريكية بفتح تحقيق في احتمال تلقيها تمويلاً خارجياً لنشر "دعاية معادية لإسرائيل"، بل ووصفتها منظمة "StopAntisemitism" بأنها تروج لأجندة "حماس"، على الرغم من أنها كانت قد نشرت أيضًا فيديوهات داعمة لأطفال إسرائيليين، ومنهم الرضيعان أرييل وكفير بيباس.


كل ذلك لم يثنِها. فعادت تنشر صورة لها مع الطفلة رهف، التي فقدت ساقيها في الحرب، وكتبت: "نعلم أن معاملة الأطفال كما يحصل في غزة ليست أمراً صائباً أخلاقياً... صمتكم سيبقى في الذاكرة."


انعكاس الانقسام الأمريكي


ما تعرضت له "ميس رايتشل" لا يمكن قراءته فقط كمجرد هجوم على شخصية مشهورة، بل هو انعكاس مباشر لحالة الاستقطاب السياسي والوجداني العميق الذي تعيشه الولايات المتحدة تجاه الحرب في غزة. الجدل حولها لم يكن بعيدًا عن مشهد أكبر من الاحتجاجات الطلابية، وانقسام الأصوات في المؤسسات، ومحاولات مستميتة لاحتواء الأصوات المتعاطفة مع الفلسطينيين.
التعليقات على منشوراتها تكشف هذا الانقسام بوضوح: من يراها "كنزًا وطنيًا"، ومن يتمنى "أن تلتزم بدورها كمربية فقط"، وكأن المربيات لا يحق لهن أن يمتلكن رأيًا في القتل والمجازر.


ما الذي يجعل قصتها فارقة؟


ما يميز قصة "ميس رايتشل" ليس فقط جرأتها في مواجهة الرأي العام، بل قدرتها على الاحتفاظ بثقة شريحة ضخمة من جمهورها رغم الحملة الممنهجة ضدها. كما أن ما فعلته يكسر الصورة النمطية للنساء المؤثرات اللواتي يُتوقع منهن أن يلتزمن الابتسامة والحياد، خاصة حين يتعلق الأمر بمأساة سياسية ذات بعد ديني وتاريخي عميق.
لقد أعادت تعريف دور المؤثر، لا كناقل للمعلومة فحسب، بل كصوت أخلاقي يُطالب بالعدالة، ولو كان ذلك على حساب راحته ومكانته.


صرخة في وجه الصمت


تجربة "ميس رايتشل" تضع الجميع أمام سؤال وجودي: هل يجوز لمن اعتاد تقديم الأمل أن يتحدث عن الألم؟ وهل تُصبح المطالبة بحياة آمنة لأطفال غزة جريمة سياسية؟ في زمن تتخلى فيه كبرى المؤسسات عن مسؤولياتها، خرج صوت طفولي الطابع، لكنه بالغ التأثير، ليقول إن الإنسانية لا تتجزأ، وإن كل طفل يستحق الحياة.
وفي النهاية، قد تُنسى برامج رايتشل التعليمية بعد حين، لكن كلمتها: "صمتكم سيبقى في الذاكرة"، قد تبقى خالدة كشهادة حقيقية على حقبة اختُبر فيها الضمير العالمي... وسقط كثيرون.