اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

أشباح الكرملين في البرازيل.. كيف كشفت ساو باولو مصنع الجواسيس الروسي؟

بوتين
محمود المصري -

في سردٍ يعكس عمق الصراع الخفي بين أجهزة الاستخبارات، تكشف قصة أرتيم شميريف، المعروف بهويته المستعارة "جيرهارد دانيال كامبوس فيتيتش"، عن ملامح واحدة من أكثر العمليات التجسسية الروسية جرأة وابتكاراً في العصر الحديث. شميريف، الضابط في الاستخبارات الروسية، لم يكن مجرد مهاجر وهمي إلى البرازيل، بل كان حلقة في شبكة سرية معقدة نسجتها موسكو على مدى سنوات، بهدف زرع "مواطنين" برازيليين مزيفين في مفاصل دولية حيوية من أجل التجسس طويل الأمد.

منذ سنوات، رأت المخابرات الروسية في البرازيل فرصة استراتيجية نادرة: دولة صديقة لروسيا تاريخياً، ذات نظام تسجيل مدني مرن، وجواز سفر يتمتع بقيمة عالية في التنقل الدولي. وقد استغلت موسكو هذه الثغرات لبناء ما يشبه "خط إنتاج استخباراتي" يُصدر إلى العالم جواسيس بهويات برازيلية حقيقية لكن بأرواح مزيفة.

قاعدة انطلاق الجواسيس

لم يكن الهدف الأساسي من هذه العملية التجسس على البرازيل بحد ذاتها، بل كان استخدام أراضيها ونظامها المدني كقاعدة انطلاق لجواسيس يُعاد تدويرهم في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط. بمعنى آخر، البرازيل لم تكن ساحة العمل، بل كانت مسرح التحول: من هوية روسية إلى هوية دولية عبر "العبور البرازيلي".
أحد الأمثلة الأكثر تجسيداً لهذه الاستراتيجية هو سيرغي تشيركاسوف، الجاسوس الذي أوشك على التغلغل في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. بتوثيق رسمي برازيلي غير قابل للطعن تقريباً، نجح تشيركاسوف في عبور أخطر نقاط التدقيق الأمني، حاصلاً على شهادة من جامعة أمريكية مرموقة، قبل أن تكشفه معلومات استخباراتية مصدرها وكالة المخابرات المركزية. لم يُعتقل بتهمة التجسس، بل بتهمة فنية – حيازة وثائق مزورة – لكنها كانت كافية لكشف طبقة عميقة من الخداع المؤسسي.


حرب صامتة

وبينما تُظهر القصة مآثر المخابرات الروسية في بناء هويات مزيفة تبدو محكمة، فإن الأهم من ذلك هو النجاح المضاد البرازيلي في اختراق هذه المنظومة. فقد تمكنت الشرطة الفيدرالية في البرازيل، من خلال عملية أطلق عليها اسم «الشرق»، من تحليل ملايين السجلات المدنية يدوياً ورقمياً، للكشف عن نمط غير طبيعي: أشخاص يظهرون فجأة كبالغين حاملين لكل أوراق الهوية القانونية، دون أي أثر لطفولة أو حياة سابقة.
هذه الجهود لم تكن لتثمر دون التعاون الاستخباراتي الدولي الذي تحفّز بعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022. فالعدوان الروسي لم يطلق فقط رصاصة جيوسياسية في صدر أوروبا، بل سرّع من التنسيق بين أجهزة الأمن العالمية، التي أدركت أن الحياد لم يعد خياراً أمام تمدد الكرملين السري. ومع كشف شبكة الجواسيس في البرازيل، بدأت تتداعى أعمدة هذا البرنامج الروسي على مستوى عالمي، بدءاً من البرتغال إلى سلوفينيا والنرويج.

العملية الاستخباراتية الروسية في البرازيل تطرح إشكاليات متعددة: كيف يمكن لدولة ذات سيادة أن تكتشف أن نظامها المدني استُخدم كبوابة لتخليق مواطنين وهميين؟ وكيف يمكن التوفيق بين حماية الحقوق المدنية والانفتاح، وبين ضرورة حماية الأمن القومي من الاختراقات الناعمة؟
وبينما كانت العيون تراقب ساحات المعارك في كييف ودونيتسك، كانت البرازيل تُخوض حرباً صامتة لا تقل حسماً: حرب على الأشباح. وما جرى لم يكن مجرد كشف لعملاء، بل تصدعٌ في أحد أعمق أسرار بوتين: مشروع بناء الهويات البديلة الذي طالما تفاخرت به الاستخبارات الروسية.