نار التهجير وهدم الوجود.. تصعيد ممنهج لسياسات الإبادة والاقتلاع في فلسطين

تؤكد الوقائع الميدانية اليومية في الضفة الغربية وقطاع غزة أنّ الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في تصعيد خطير وممنهج لسياسات الاقتلاع والتهجير والترويع، التي تشكّل في جوهرها استمراراً لنكبة متواصلة بأشكال جديدة، تتداخل فيها أدوات الاستعمار الاستيطاني مع أدوات العقاب الجماعي والإبادة المنظمة.
التهجير القسري في الضفة
أشارت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في فلسطين إلى أن إرهاب المستوطنين، المحمي والمغطى من المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، تسبب منذ مطلع العام 2025 في تهجير أكثر من 30 تجمعاً بدوياً، شملت 323 عائلة، في موجة تهجير تصاعدية تهدف إلى تفريغ المناطق الحيوية من الوجود الفلسطيني، خصوصاً في السفوح الشرقية والأغوار.
آخر هذه الجرائم تمثل في تفكيك تجمع "مغاير الدير" بين دير دبوان ومخماس شرق رام الله، والذي أجبر سكانه الـ124 (ضمن 25 عائلة) على الرحيل نتيجة ضغوط ممنهجة من اعتداءات المستوطنين، وبناء مبانٍ استيطانية جديدة، ما يجعل من التهجير القسري سلاحاً صامتاً يُمارس ضمن بيئة طاردة تفتقد لأبسط مقومات الحياة.
رئيس الهيئة، مؤيد شعبان، اعتبر أن هذه السياسات ليست مجرد تجاوزات عشوائية بل هي تنفيذ متدرج لمخططات دولة الاحتلال، مستندة إلى أدوات القهر وفرض الأمر الواقع، عبر تقييد حركة الرعي، تجفيف مصادر المياه، وغياب الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، في تجاوز صارخ لأبسط قواعد القانون الدولي والإنساني.
قطاع غزة.. مجازر مستمرة تحت غطاء الصمت الدولي
وفي قطاع غزة، يتواصل العدوان الإسرائيلي بوتيرة تصعيدية مدمّرة، بلغت ذروتها في الأسابيع الأخيرة عبر استهداف مباشر للمدنيين والنازحين، كما حدث في مجزرة دير البلح التي أدت إلى استشهاد عشرة فلسطينيين، بينهم تسعة من عائلة واحدة، بعد قصف بركس يضم نازحين قرب حاووز مياه، بالإضافة إلى استهداف خيام نازحين في مخيمات الصداقة وتل الزعتر.
امتدت الغارات الإسرائيلية إلى تدمير واسع للبنى التحتية والمباني السكنية، وسط صعوبات شديدة تواجهها طواقم الدفاع المدني في الوصول إلى مواقع القصف، بسبب انقطاع الطرق وكثافة الهجمات، ما أجبرها على استخدام أدوات يدوية وطرق بدائية في عمليات الإغاثة.
ومع استمرار القصف اليومي، تشير الإحصاءات إلى وصول عدد الشهداء إلى أكثر من 53,655 شهيداً وأكثر من 121,950 جريحاً منذ السابع من أكتوبر 2023، في كارثة إنسانية لم يشهد لها القطاع مثيلاً في تاريخه الحديث، مع استمرار عمليات الهدم والحرق والقصف العشوائي للمنازل والمنشآت المدنية.
طولكرم ونور شمس.. سيناريو عسكري مستمر للتهجير والتدمير
في الضفة الغربية، وتحديداً في مدينة طولكرم ومخيم نور شمس، يتواصل الحصار الإسرائيلي للمدن والمخيمات لليوم 116 و103 على التوالي على الترتيب، وسط عمليات اقتحام ليلية مكثفة، واعتقالات عشوائية، وتحويل عدد من المنازل إلى ثكنات عسكرية، في محاولة واضحة لتفريغ المخيمات وطمس معالمها الجغرافية.
كما أُعلن عن مخططات إسرائيلية لهدم 106 مبانٍ في المخيمين، إضافة إلى تنفيذ تفجيرات غامضة وحملات تدمير طالت أكثر من 20 مبنى سكنياً خلال الأيام الأخيرة، وأدت إلى تهجير قسري لما يزيد عن 25 ألف مواطن، وتدمير كلي لأكثر من 400 منزل.
الاحتلال لا يكتفي بفرض حصار مادي بل يحوّل المناطق إلى بيئات خانقة ومعزولة، تفتقر لأبسط ضروريات الحياة، في محاولة لخلق واقع جديد بالقوة، بعيداً عن الإعلام والدبلوماسية، يستهدف المكون المجتمعي الفلسطيني في جذوره.
إرهاب منفلت لتكريس مشروع الاستيطان
ضمن ذات السياق، شهدت قرية بيرين قرب الخليل جريمة جديدة تمثلت بإحراق منزل لعائلة مكونة من عشرة أفراد على يد مستوطنين متطرفين. الهجوم تسبّب في أضرار جسيمة وانفجار أنبوبة غاز في المنزل، ما أدى إلى نزوح العائلة التي باتت مهددة بالموت أو التهجير في أي لحظة، ضمن سياسة توسعية تفرض "الفراغ السكاني" في المناطق المستهدفة بالاستيطان.
هذه الهجمات لم تعد تُصنّف كأعمال فردية، بل تترافق مع حماية رسمية، أو غضّ طرف مؤسساتي، ما يجعلها جزءاً من سياسات الاحتلال وليس مجرد أفعال مارقة.
واقع الاحتلال اليوم هو مشروع إحلال لا مجرد سيطرة
ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة ليس تصعيداً عسكرياً فحسب، بل هو تنفيذ محكم لمشروع استعماري طويل الأمد، يستهدف تمزيق النسيج الجغرافي والديمغرافي الفلسطيني، وفرض واقع سياسي جديد قائم على الطرد، والإنهاك، والتفكيك، سواء عبر التهجير القسري، أو المجازر الجماعية، أو التضييق الاقتصادي والبيئي.
إن استمرار هذه السياسات دون ردّ سياسي وشعبي وجماهيري فلسطيني حقيقي، ومن دون تحرك فاعل على الساحات الدولية، لا يؤدي إلا إلى تكريس أمر واقع جديد، لا يختلف في جوهره عن نكبة 1948، بل يعيد إنتاجها بوسائل جديدة وتحت مرأى العالم كله.