اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

عقوبات كيميائية.. واشنطن تُصعّد ضد الخرطوم وتُعيد تشكيل خطاب المحاسبة في أزمة السودان

السودان
محمود المصري -

في خطوة جديدة تُنذر بمزيد من التصعيد في تعاطي واشنطن مع الأزمة السودانية، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على الحكومة السودانية بزعم استخدامها أسلحة كيميائية في عام 2024، في ما اعتُبر تصعيدًا غير مسبوق في لهجة الإدارة الأميركية تجاه طرف حكومي في صراع داخلي دامٍ تعيشه البلاد منذ أكثر من عام.


القرار، الذي أُعلن عنه رسميًا في 24 أبريل الماضي، استند إلى ما وصفته وزارة الخارجية الأميركية بأنه خرق لقانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقضاء على استخدامها في الحروب لعام 1991، وهو أحد أعمدة التشريعات الأميركية الخاصة بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.


التوقيت والدلالات


تأتي العقوبات الأميركية الجديدة ضمن تقرير رسمي قُدّم إلى الكونغرس الأميركي، يتضمّن ملحقًا لتقرير سابق صدر في 15 أبريل حول التزام الدول باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية. ووفقاً لهذا التقرير، فإن السودان لم يلتزم بالاتفاقية الدولية رغم كونه طرفًا موقعًا عليها، ما يعطي الولايات المتحدة – بموجب قوانينها – مبررًا قانونيًا لتفعيل حزمة من القيود والعقوبات.


ومن المقرر أن تدخل هذه العقوبات حيّز التنفيذ عقب انقضاء فترة إخطار للكونغرس مدتها 15 يومًا، على أن تُدرج رسميًا في السجل الفيدرالي بحلول يونيو، وتشمل هذه العقوبات قيودًا على صادرات التكنولوجيا الأميركية، ومنع السودان من الاستفادة من أي خطوط ائتمان حكومية أميركية.


ورغم أهمية السياق القانوني، فإن هذه الخطوة تحمل في طيّاتها أبعادًا سياسية وأمنية، إذ تُعبّر عن تحوّل في خطاب واشنطن، من سياسة "الضغط المتوازن" بين طرفي النزاع، إلى محاولة ترسيم حدود أخلاقية للحرب الأهلية من خلال اتهام طرف باستخدام سلاح محظور دوليًا.


غموض الرد السوداني وصمت رسمي


حتى الآن، لم تُصدر وزارة الخارجية السودانية أي تعليق رسمي على القرار الأميركي، وهو صمت قد يُقرأ على أنه محاولة لامتصاص الصدمة السياسية في ظل انقسام داخلي واستنزاف دبلوماسي تعاني منه مؤسسات الدولة السودانية منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع.


وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد ذكرت في تقرير لها في يناير، استنادًا إلى أربعة مسؤولين أميركيين، أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية مرتين على الأقل في مناطق النزاع، وهو ما شكّل – على الأرجح – الأرضية الاستخباراتية والحقوقية التي بُني عليها قرار العقوبات الأخير.


عقوبات سابقة وتصعيد متدرج


القرار الأخير لا يُعد الأول من نوعه، بل يأتي ضمن سلسلة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على طرفي النزاع في السودان. ففي يناير 2024، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على كلّ من قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وقائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، متهمة الطرفين بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين.


وجاء في بيان الخزانة الأميركية أن "تكتيكات الحرب التي ينتهجها الجيش بقيادة البرهان شملت القصف العشوائي للبنية التحتية المدنية، والهجمات على المدارس والأسواق والمستشفيات، إضافة إلى الإعدامات خارج نطاق القانون، وحرمان المدنيين من المساعدات"، ما اعتُبر حينها توجيهًا مباشرًا للاتهام بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع الإنسانية في البلاد.


ولم يكن "حميدتي" بمنأى عن هذا الضغط؛ فقد طالته أيضًا عقوبات فردية، شملت إلى جانبه سبعة كيانات اقتصادية مرتبطة به، على خلفية اتهامات بارتكاب "إبادة جماعية" في دارفور، شملت قتل المدنيين على أساس عرقي، وارتكاب جرائم اغتصاب جماعي وعنف جنسي ممنهج.


قراءة في الأبعاد السياسية


تكشف مجمل هذه الإجراءات عن توجّه أميركي جديد نحو استخدام أداة العقوبات الفردية والمؤسساتية لتأطير الصراع السوداني ضمن خطاب دولي يتجاوز لغة الوساطة التقليدية. فواشنطن، التي سبق أن اكتفت بالدعوات إلى وقف إطلاق النار والضغط الإنساني، بدأت الآن تبني سياسة "التسمية والفضح" (naming and shaming)، وهو ما يندرج ضمن استراتيجيات الضغط المعنوي لعزل أطراف النزاع وإرغامهم على تغيير سلوكهم العسكري والسياسي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: إلى أي مدى تملك واشنطن القدرة على إنفاذ هذه العقوبات في بيئة إقليمية باتت أكثر تعقيدًا؟ وهل ستُسهم هذه العقوبات في كبح الانتهاكات، أم أنها تدفع الأطراف نحو مزيد من الانغلاق والاحتماء بمحاور دولية بديلة؟

نحو تصعيد جديد في حرب الروايات


من الواضح أن ساحة المعركة في السودان لم تعد تقتصر على ميادين القتال، بل امتدّت إلى ميادين القانون الدولي، والإعلام، والمحاسبة الأخلاقية.
واشنطن، بخطوتها الأخيرة، لا تكتفي بتوجيه رسالة إلى الحكومة السودانية، بل تُعيد رسم ملامح خطابها السياسي في المنطقة، واضعة معايير جديدة لما تعتبره "تجاوزًا للخطوط الحمراء".
ومع استمرار التعتيم الإعلامي على ما يحدث داخل السودان، تتسابق الأطراف المختلفة على رواية "الحقيقة" من موقعها، فيما يظل المدنيون، كما العادة، هم الضحايا الأوائل والأواخر في حربٍ لم تعد فقط بالسلاح، بل أيضًا بالكلمات والعقوبات، وباسم القانون الدولي.