اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

هل تُنقذ ”دبلوماسية العتبة” العلاقات التجارية الأميركية الأوروبية؟

الاتحاد الأوروبي
محمود المصري -

في المشهد العالمي حيث تتقاطع الخطابات الحادة مع لغة الاقتصاد، وتُقايض المصالح بالضغوط، تقف العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عند حافة نزاع جديد، يتقن الطرفان فيه فنون "ديبلوماسية العتبة" تلك المرحلة التي تسبق الانفجار بخطوة، لكنها لا تسمح بالعودة الكاملة إلى الوراء.
يحاول مفاوضو إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يُمْلوا إيقاعاً مختلفاً للّعبة. لم يعد الحديث عن خفض متبادل للرسوم الجمركية يرضي واشنطن. تريد تنازلاً أحادياً من بروكسل، خفضاً غير مشروط في الرسوم، يُظهر امتثالاً أكثر منه شراكة، ويُعيد تشكيل ميزان القوة في علاقة لطالما كانت مضطربة تحت السطح رغم تحالفها التاريخي.

في هذا السياق، كشفت صحيفة فاينانشيال تايمز عن تفاصيل حوار لم يكتمل. المفاوض الأميركي جيميسون جرير يستعد لإبلاغ نظيره الأوروبي، ماروش شفتشوفيتش، بأن العرض الأوروبي الأخير أقرب إلى الإحباط منه إلى التقدم. مذكرة توضيحية صادرة عن بروكسل، لم ترقَ – برأي واشنطن – إلى الحد الأدنى من التوقعات. فالاتحاد الأوروبي لا يزال يطرح تخفيضات متبادلة، متجنباً الطلب الأميركي بتقديم تنازل منفرد، ويتحاشى التطرق إلى واحدة من أبرز نقاط النزاع: الضريبة الرقمية.

تنظيم الهيمنة الرقمية الأميركية

هذه الضريبة، التي تراها أوروبا أداة لتنظيم الهيمنة الرقمية الأميركية، تُعتبر في واشنطن مؤشراً على عداء مضمَر يهدد شركات التكنولوجيا العملاقة. وفي ظل هذا التباعد، تتراجع احتمالات إحراز تقدم حقيقي، فيما تتصاعد مؤشرات الركود في اقتصاديات أوروبية مرهَقة، وتتعثر خططها لإعادة التسليح وتعزيز الإنفاق الدفاعي في مواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة.

المشهد ليس عابراً، بل حلقة جديدة في تسلسل زمني لحرب تجارية متصاعدة. فمنذ مارس الماضي، تبادلت واشنطن وبروكسل الرسوم والتهديدات، بداية بالصلب والألومنيوم، مروراً بالسيارات والكحول، وصولاً إلى الأدوية وأشباه الموصلات. ورغم وقف مؤقت لإحدى التعريفات بنسبة 20%، لم يتحقق أي اختراق في المفاوضات، بل جرى تبادل الوثائق بلا مضمون فعلي. أحد المفاوضين الأوروبيين اختصر ذلك بالقول: "تبادل الرسائل ليس تقدماً".

في خلفية هذه المفاوضات المرهقة، تظهر مفارقة بارزة: واشنطن ترى أن العرض الأوروبي، الذي يُلغي الرسوم الجمركية على السلع الصناعية والزراعية بشرط المعاملة بالمثل، هو فخ مموّه، يُستخدم فيه معيار المنتجات لمنع دخول الواردات الأميركية فعلياً. بينما يؤكد الاتحاد الأوروبي أن العرض يحتوي على بنود أكثر شمولاً: من الإلغاء التدريجي للرسوم، إلى التعاون في ضبط فائض الطاقة الإنتاجية في سلاسل التوريد، فضلاً عن مجالات أخرى كالأمن الاقتصادي، وحقوق العمال، وتوحيد معايير بيئية.

أمر واقع

لكن هذا التوسع لم يُقنع الجانب الأميركي. واشنطن تصرّ على ما هو أبعد من الرسوم: حرية استثمار للشركات الأميركية في أوروبا، قبول معايير الأغذية والمنتجات الأميركية التي لطالما رفضتها أوروبا لدواعٍ صحية وبيئية، وإلغاء الضرائب الرقمية الوطنية، التي ترى فيها تهديداً مباشراً.

ومع تصاعد التوتر، تتوالى الاجتماعات، آخرها مرتقب في باريس الشهر المقبل، حيث سيلتقي جرير وشيفكوفيتش في لقاء سيحمل وزناً مضاعفاً. فإما انفراجة تبدأ، أو جولة تصعيد جديدة، قد تصل إلى مستويات يصعب احتواؤها لاحقاً.

اتفاق عادل

الاتحاد الأوروبي، على لسان المتحدث التجاري أولوف جيل، لا يزال يتمسك بلغة العقل: "نحن نسعى إلى اتفاق عادل ومتوازن... يحتاج الجانبان إلى تجاوز منطق الرسوم إلى منطق التعاون". لكن تحت هذا الخطاب المتزن، هناك قلق أوروبي صامت: هل يريد ترمب فعلاً اتفاقاً؟ أم أن تصعيد الحرب التجارية جزء من رؤيته السياسية للمرحلة المقبلة، خصوصاً مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في بلاده؟

في جوهر المشهد، ليس الخلاف تقنياً فقط، ما يطلبه ترمب ليس مجرد موازنة للميزان التجاري، بل إعادة كتابة القواعد. وكأن واشنطن، مدفوعة بعقيدة "أميركا أولاً"، لم تعد ترى في الاتحاد الأوروبي شريكاً، بل منافساً ينبغي تطويعه أو تهميشه.

ووسط هذا كله، لا يزال دبلوماسيون أوروبيون يتشبثون بخيط الأمل الأخير، محذرين من أن أي اتفاق يُبقي على نسبة 10% كحد أدنى للرسوم الأميركية، سيُقابل برد انتقامي غير مسبوق. وتبقى الحقيقة الأهم: الاقتصاد لم يعد محايداً. فهو الآن أداة في معركة أوسع، تتشابك فيها السياسة بالسيادة، والمال بالهوية، والتجارة بالقوة.