صادرات خلف الستار.. كيف واصلت بريطانيا تسليح إسرائيل رغم تعليق التراخيص الرسمية؟

رغم إعلان الحكومة البريطانية في سبتمبر 2024 عن تعليق 29 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، كشف تحليل جديد لبيانات تجارية إسرائيلية عن استمرار تدفق المعدات العسكرية من المملكة المتحدة إلى تل أبيب، في خرق واضح لما أُعلن رسمياً، ما يثير أسئلة حادة حول الشفافية والمساءلة داخل الحكومة البريطانية.
صحيفة الغارديان البريطانية سلطت الضوء على هذه المفارقة الصارخة، مستندةً إلى تحليل أجرته منظمات حقوقية، منها "حركة الشباب الفلسطيني" و"المنظمة التقدمية الدولية"، باستخدام بيانات صادرة عن هيئة الضرائب الإسرائيلية. يغطي التحليل الفترة من أكتوبر 2023 حتى مارس 2025، ويشير إلى وصول 14 شحنة من المعدات العسكرية البريطانية إلى إسرائيل، منها 13 جواً إلى مطار بن غوريون وواحدة بحراً إلى ميناء حيفا، احتوت وحدها على 160 ألف قطعة.
ازدواجية الخطاب والممارسة
الحكومة البريطانية كانت قد بررت تعليق التراخيص بخوفها من استخدام إسرائيل للأسلحة البريطانية في انتهاك القانون الإنساني الدولي، خصوصاً في ظل الحرب المدمرة على غزة. إلا أن تصريحات المسؤولين، وعلى رأسهم وزير الخارجية ديفيد لامي، أكدت للبرلمان أن التراخيص المتبقية تخص فقط معدات "دفاعية غير فتاكة"، مثل الخوذات والنظارات الواقية، وأنها لا تُستخدم في الحرب الجارية.
لكن البيانات التي كُشف عنها تتناقض تماماً مع هذا التطمين الرسمي، إذ شملت الشحنات أسلحة ثقيلة وذخائر عالية التأثير، منها:
8630 قطعة من "القنابل، الطوربيدات، الألغام، الصواريخ، والذخائر الحربية المماثلة".
146 قطعة من المدرعات والمركبات القتالية، شُحنت بعد سبتمبر 2024.
شحنات بقيمة إجمالية تجاوزت نصف مليون جنيه إسترليني.
استثناءات مثيرة للجدل
بجانب تراخيص السلاح المعلقة، منحت الحكومة البريطانية استثناءً خاصاً للقطع المستخدمة ضمن برنامج تصنيع مقاتلات "F-35"، الذي تشارك فيه بريطانيا وتزود من خلاله أجزاء لمقاتلات تُستخدم في إسرائيل. وقد بررت وزارة الدفاع هذا الاستثناء باعتبارات تتعلق بالأمن القومي البريطاني.
هذا التناقض في الموقف الرسمي أثار غضب عدد من النواب والناشطين، إذ اعتبروه تضليلاً مقصوداً للرأي العام والبرلمان. وزير المالية السابق في حكومة الظل العمالية، جون ماكدونيل، دعا إلى تحقيق مستقل، واعتبر أن تضليل البرلمان يجب أن يُقابل باستقالة وزير الخارجية. أما النائبة زارا سلطانة فذهبت أبعد، متهمة الحكومة بالكذب المتعمد، وبتوريد أدوات الموت "في خضم ما يرقى إلى إبادة جماعية في غزة".
أزمة سياسية وأخلاقية
ما يفاقم الموقف البريطاني هو التوقيت السياسي والأخلاقي الحرج. فبينما تتزايد الدعوات الدولية لفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، تتكشف وقائع تثبت استمرار الدعم العسكري عبر قنوات رسمية وغير معلنة. وهو ما يُضعف مصداقية لندن على الساحة الدولية، ويطرح تساؤلات حول ازدواجية المعايير في مواقفها من حقوق الإنسان والقانون الدولي.
كذلك، فإن منح استثناءات تحت ذرائع "الأمن القومي" في الوقت الذي يُتهم فيه الجيش الإسرائيلي بارتكاب فظائع في غزة، قد يفتح بريطانيا أمام طعون قانونية ومساءلات من منظمات حقوقية، وربما حتى دعاوى قضائية أمام المحاكم الدولية.
إن ما كشفته هذه البيانات لا يتعلق فقط بخروقات إدارية أو تجاوزات تقنية، بل يعكس خللاً هيكلياً في منظومة الرقابة على صادرات السلاح البريطانية، ويُعيد إلى الواجهة سؤالاً جوهرياً: إلى أي مدى تلتزم الدول الغربية بمبادئها المُعلنة عندما تصطدم بالمصالح الاستراتيجية؟
وهل يمكن فعلاً وقف الإبادة، طالما أن "المجهز بالعدة" ما زال يُغذي آلة الحرب خفية، من داخل غرف القرار ذاتها التي تدّعي الدفاع عن القانون الدولي؟.