فيتنام بين باريس وواشنطن.. دبلوماسية الصفقات ومخاطر الاستقطاب التجاري

في مشهد يعكس تشابك المصالح الاقتصادية والتجاذبات الجيوسياسية، وقّعت فرنسا وفيتنام اتفاقيات واسعة النطاق شملت شراء 20 طائرة من طراز "إيرباص A330neo" ومشاريع تعاون في مجالات الطاقة النووية والبنية التحتية للسكك الحديدية والصناعات الدوائية والأقمار الصناعية. هذه الاتفاقيات تم الإعلان عنها خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لهانوي، وهي أول زيارة رسمية لرئيس فرنسي إلى فيتنام منذ نحو عقد، وتهدف إلى تعزيز الحضور الفرنسي في مستعمرتها السابقة في سياق تنافسي متصاعد مع النفوذ الأميركي المتزايد.
زيارة ماكرون جاءت في وقت حساس يتسم بتصاعد التوترات التجارية بين واشنطن وبروكسل، إثر تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 50% على الواردات الأوروبية، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً مقابل منح الاتحاد الأوروبي مهلة تنتهي في يوليو لتسوية الخلافات التجارية. هذا السياق ألقى بظلاله على زيارات الزعماء الأوروبيين إلى آسيا، حيث يسعى هؤلاء إلى إعادة تموضعهم في أسواق سريعة النمو دون الاصطدام بالخطوط الحمراء الأميركية.
البضائع الأمريكية
في قلب هذا التنافس، تجد فيتنام نفسها في موقف لا تحسد عليه. فهي دولة تعتمد بشكل كبير على التصدير، وخاصة إلى الولايات المتحدة، ما يجعلها عرضة لأي تصعيد في السياسات الحمائية الأميركية. وقد تعهدت هانوي، تحت ضغط واشنطن، بزيادة مشترياتها من البضائع الأميركية لتقليص فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، وتجنب رسوم جمركية قد تصل إلى 46%، ما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي حاد.
وفي هذا السياق، أظهرت فيتنام انفتاحاً على شراء أكثر من 250 طائرة من شركة "بوينج" الأميركية، لصالح شركتي "فيتنام إيرلاينز" و"فيت جيت"، ما أثار قلقاً أوروبياً مشروعاً من احتمال أن يتم تفضيل الصفقات الأميركية على حساب الاتفاقيات التجارية الموقعة مع الاتحاد الأوروبي. فالاتحاد الأوروبي يعد شريكاً تجارياً أساسياً لفيتنام، ومرتبط معها باتفاقية تجارة حرة تمنح الطرفين امتيازات كبيرة، وقد حذر مسؤولون أوروبيون من أن انجراف هانوي وراء الضغوط الأميركية قد يعرض هذه العلاقة للخطر.
محدودية النفوذ الأوروبي
ماكرون، الذي يدرك محدودية النفوذ الأوروبي في جنوب شرق آسيا مقارنة بالولايات المتحدة والصين، يسعى من خلال هذه الزيارة إلى تثبيت موطئ قدم لفرنسا في ساحة استراتيجية تتزايد أهميتها، ليس فقط تجارياً بل وجيوسياسياً أيضاً. فرنسا، التي تملك تاريخاً استعمارياً معقداً في المنطقة، تعوّل على أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية الناعمة لتعزيز شراكاتها، مدفوعة بمخاوف من انحسار دورها في عالم يعيد تشكيل تحالفاته ومصالحه.
في نهاية المطاف، تجد فيتنام نفسها مضطرة إلى تحقيق توازن دقيق بين رغبتها في تنويع شركائها التجاريين وبين تفادي غضب القوة الاقتصادية الأولى في العالم. والنتيجة هي مسرح دبلوماسي اقتصادي معقد، حيث تتقاطع صفقات الطائرات مع صفقات النفوذ، وتتحول الهدايا الاستثمارية إلى أدوات للضغط السياسي، فيما تحاول هانوي أن تحافظ على مصالحها دون أن تخسر أحد الطرفين.