رئيس وزراء السودان على مفترق الصراع.. تعيين كامل إدريس بين رهانات الداخل وضغوط الخارج

في خطوة مفصلية على رقعة شطرنج السياسة السودانية، أصدر الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، مرسوماً بتعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيساً للوزراء، ما فتح الباب واسعاً أمام سجال قانوني وسياسي عميق، بين من رأى فيه خطوة نحو استعادة "المدني" في الحكم، ومن اعتبره محاولة متأخرة لكسب الشرعية المفقودة داخلياً وخارجياً.
جذور الأزمة: شرعية مضطربة وصراع مراكز
يتقاطع هذا التعيين مع واقع بالغ التعقيد، تهيمن عليه حرب مستعرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسط انقسام فعلي في السلطة بين كتلتين تتنافسان على "الشرعية". في هذا السياق، لم يعد تعيين رئيس للوزراء مجرد قرار إداري، بل صار محكوماً بميزان قوى هش، تدور رحاه بين من يملك السيطرة العسكرية ومن يسعى لتكريس النفوذ السياسي.
التشكيك في القرار لم يتأخر، حيث اعتبرت قوى مدنية عديدة أن التعيين يفتقر للشرعية القانونية، بينما انقسم الخبراء الدستوريون حول تفسير الوثيقة الدستورية المعدلة، خصوصاً في ظل غياب برلمان منتخب أو حتى حكومة فعلية معترف بها. وفي المقابل، تمسّك البرهان وأنصاره ببنود الوثيقة التي تمنح مجلس السيادة حق تعيين رئيس وزراء في ظل غياب المجلس التشريعي، كما أكد الدكتور نبيل أديب، الخبير الدستوري.
كامل إدريس: بين كفاءة دولية وتحديات محلية
شخصية كامل إدريس ليست جديدة على المشهد العام. يحمل الرجل خلفية قانونية ودبلوماسية دولية مرموقة، حيث ترأس المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) في جنيف لفترتين، وكان عضواً في لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة، بالإضافة إلى عمله السابق في السلك الدبلوماسي السوداني.
لكن ما بين التقدير الخارجي والإجماع الداخلي، هوة لا تزال شاسعة. فرغم ترحيب بعض التيارات السياسية التي رأت في إدريس "واجهة تكنوقراطية غير حزبية"، تتيح التقدم نحو انتخابات مدنية، إلا أن خصوم البرهان، من قوى المعارضة المدنية والدعم السريع، يرون في التعيين محاولة مكشوفة لإعادة تدوير السلطة العسكرية بغطاء مدني، والتملص من الضغوط الغربية المطالبة بتسليم الحكم إلى قيادة مدنية منتخبة.
خارطة طريق أم ورقة تجميلية؟
وفقاً لمصادر قريبة من المجلس السيادي، فإن تعيين إدريس يأتي في سياق "خارطة طريق" تنتهي خلال 24 شهراً بإجراء انتخابات عامة، تشمل أهدافها إعادة النازحين، وتشكيل حكومة كفاءات، وتهيئة بيئة سياسية مدنية. لكن هذه الوعود، التي تبدو نظرية على الورق، تصطدم على الأرض بواقع أمني مأزوم، وانقسامات أفقية وعمودية في المشهد السياسي، حيث تتحدث أطراف عديدة عن "حكومتين محتملتين"، واحدة في الشمال بقيادة البرهان، وأخرى في الغرب قد يقودها حميدتي.
معركة الداخل والخارج: رهان البرهان
يرى محللون أن البرهان يسعى من خلال إدريس إلى كسر عزلته الدولية، خصوصاً بعد أن عُلّقت عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي، وتوقف الدعم الدولي نتيجة ما اعتُبر انقلاباً على حكومة عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021. في هذا الإطار، يراهن المجلس السيادي على علاقات إدريس الدولية لتجسير الفجوة مع العواصم الغربية والمؤسسات متعددة الأطراف، بينما يرى آخرون أن هذه العلاقات، مهما كانت متينة، لن تكفي لإقناع الخارج بشرعية سلطة تفتقر إلى الإجماع الوطني.
التحديات المقبلة: شرعية متآكلة وواقع ميداني مفخخ
الملفات التي تنتظر إدريس لا تُعد ولا تُحصى: إعادة بناء جهاز الدولة، ترميم الاقتصاد المنهار، التعامل مع الكارثة الإنسانية الناجمة عن الحرب، وخلق مسار سياسي توافقي يقود إلى انتخابات. إلا أن كل هذه المهام تصطدم بثلاث عقبات كبرى:
غياب التوافق الوطني، في ظل تعدد الجهات المسلحة ورفض قوى رئيسية للاعتراف بالحكومة الجديدة.
انعدام الثقة في نوايا البرهان، خاصة من الأطراف التي تتهمه بالسعي للهيمنة على السلطة عبر غطاء مدني.
الفراغ التشريعي والدستوري، الذي يجعل أي قرارات تنفيذية عرضة للطعن السياسي والقانوني.
السودان إلى أين؟
لا يمكن فصل تعيين كامل إدريس عن المشهد المعقد في السودان، حيث تتشابك خطوط الحرب والسياسة والدستور والمصالح الدولية. قد يملك الرجل من الخبرة ما يؤهله للمهمة، لكنه يواجه بيئة غير مستقرة، واستقطاباً عميقاً، وتشكيكاً واسعاً في شرعيته.
يبقى السؤال الأكبر: هل يكون هذا التعيين مدخلاً حقيقياً نحو مرحلة انتقالية جادة تقود إلى ديمقراطية؟ أم مجرد ورقة توت تغطي على واقع سلطة أمر واقع تقاوم السقوط؟ الإجابة، على الأرجح، ستكون رهينة بما ستؤول إليه المعادلات العسكرية والسياسية في الأسابيع والشهور القادمة.