كيف اخترقت أوكرانيا العمق الروسي في هجوم ”شبكة العنكبوت”؟

في واحدة من أكثر العمليات جرأة وتعقيدًا منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، نفذت كييف هجومًا بطائرات مسيّرة داخل العمق الروسي تحت اسم "شبكة العنكبوت". لم يكن الهجوم مجرد ضربة عسكرية، بل رسالة استراتيجية تحمل أبعادًا عسكرية ونفسية وسياسية في آن واحد، إذ طال قاعدتين جويتين روسيتين تبعدان آلاف الكيلومترات عن الخطوط الأمامية، وخلّف خسائر كبيرة في منظومة الردع الجوي الروسية.
تحوّل في طبيعة الصراع.. من الدفاع إلى الهجوم الاستراتيجي
العملية تمثل قفزة نوعية في قدرات أوكرانيا الهجومية، ليس فقط من حيث البعد الجغرافي — إذ طالت أهدافاً في سيبيريا ومورمانسك على بعد أكثر من 4000 كيلومتر من الحدود — بل من حيث نوعية الأهداف: قاذفات استراتيجية بعيدة المدى تُعد من أعمدة "الثالوث النووي الروسي"، على غرار طائرات Tu-95 وTu-22M، إضافة إلى طائرات A-50 للإنذار المبكر، وهي موارد يصعب تعويضها بسرعة.
بذلك، يتجاوز الهجوم طبيعته التكتيكية، ليحمل دلالات استراتيجية خطيرة: أوكرانيا باتت قادرة على تهديد البنية التحتية العسكرية العميقة لروسيا، وهي قدرة لم تكن متصورة في بداية الحرب.
عملية استخباراتية بامتياز
كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن التخطيط للعملية استغرق أكثر من عام ونصف، ونُفذ من داخل مكتب بجوار مقر جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، في واحدة من أبرز العمليات التخريبية خلف خطوط العدو منذ نهاية الحرب الباردة.
تضمنت العملية تهريب 117 طائرة مسيّرة صغيرة من نوع FPV إلى الأراضي الروسية، حيث خُبئت داخل بيوت خشبية ونُقلت عبر شاحنات إلى مواقع قريبة من القواعد المستهدفة. تم إطلاق المسيّرات لاحقًا عن بُعد، فيما كانت أجهزة التوجيه تنقل المشهد للمشغّلين في الوقت الفعلي، وكأنهم على متنها.
هذا النمط من العمليات يكشف عن اختراقات استخباراتية دقيقة في عمق المنظومة الأمنية الروسية، ويثير تساؤلات حول فعالية الرقابة الروسية على أراضيها، حتى في المناطق المحاذية للقواعد العسكرية الحساسة.
بين الاحتواء والتقليل من الخسائر
رغم تأكيد وزارة الدفاع الروسية على "إخماد الحرائق" و"اعتقال عدد من المتورطين"، وتوصيف الهجوم بـ"الإرهابي"، فإن التباين في التقديرات بين كييف وموسكو يُظهر محاولة روسية للتقليل من حجم الخسائر. أوكرانيا تؤكد تضرر أو تدمير 41 طائرة عسكرية، أي ما يعادل نحو ثلث أسطول القاذفات الاستراتيجية الروسية، بينما تكتفي موسكو بالحديث عن "اشتعال بعض الطائرات".
الجدل داخل روسيا ظهر بوضوح في وصف بعض المدونين العسكريين للهجوم بأنه شبيه بهجوم بيرل هاربور الياباني على أميركا عام 1941، من حيث عنصر المفاجأة وضخامة التأثير. حتى وإن رفض البعض هذا التشبيه، إلا أنه يعكس حجم الصدمة داخل الأوساط الروسية.
استنزاف للردع الروسي
تُعد الطائرات التي استُهدفت — مثل Tu-95 وTu-22M وA-50 — من أدوات الردع الأساسية في العقيدة العسكرية الروسية:
Tu-95: طائرة ذات مدى عابر للقارات، مصممة منذ خمسينيات القرن الماضي، قادرة على حمل صواريخ نووية أو تقليدية.
Tu-22M3: قاذفة أسرع من الصوت تحمل صواريخ كروز من طراز Kh-22، ذات قدرة تدميرية هائلة.
A-50: طائرة إنذار مبكر تُستخدم لتنسيق الهجمات وتحديد مواقع الدفاعات الجوية. خسارتها تُعد ضربة قاصمة.
هذه الأنواع من الطائرات لا تُصنّع بسهولة أو بسرعة، وتعرضها للخطر أو التدمير يمثل استنزافًا فعليًا لقدرة روسيا على شن هجمات طويلة المدى أو الحفاظ على تفوقها الجوي.
أبعاد سياسية ودولية.. التحدي أمام واشنطن وموسكو
اللافت أن أوكرانيا لم تُخطر الولايات المتحدة مسبقًا بالعملية، ما قد يشير إلى اتجاه كييف نحو عمليات مستقلة أكثر جرأة خارج نطاق الدعم المباشر للحلفاء، وربما لتجنب الضغوط الغربية التي تُحذر عادة من استهداف العمق الروسي خوفًا من التصعيد النووي.
بالمقابل، تكشف العملية لموسكو أن نظرية الردع لا تضمن الحصانة، وأن الجغرافيا لم تعد كفيلة بحماية مواقعها الاستراتيجية، مما قد يدفعها لإعادة تقييم استراتيجيتها الدفاعية بالكامل.