عقيدة الردع تتجدد.. الناتو يعيد رسم أولوياته تحت ضغط البيت الأبيض

تشهد العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) منعطفاً استراتيجياً حاسماً، بعد دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى رفع الإنفاق الدفاعي من 2% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أعاد خلط أوراق التحالف وأثار نقاشاً ساخناً بين العواصم الأوروبية.
وقد أعرب وزير الدفاع الأميركي، بيت هيجسيث، عن ثقته في أن دول الناتو ستذعن لهذا المطلب، مشدداً على ضرورة التوصل إلى توافق بحلول قمة الحلف المرتقبة في لاهاي أواخر يونيو الجاري.
هذه الدعوة المفاجئة لرفع الإنفاق إلى أكثر من الضعف تمثل تصعيداً لنهج ترمب المعروف بتحميل الحلفاء الأوروبيين مسؤولية أكبر في تقاسم أعباء الدفاع الجماعي. ويُنظر إلى هذه الضغوط على أنها اختبار حقيقي لمستقبل التزام واشنطن بحلف الناتو، في ظل تصاعد التهديدات الجيوسياسية، لا سيما من روسيا.
انقسام أوروبي.. بين قلق أمني وعجز اقتصادي
الدول الأوروبية، ورغم إقرارها بأهمية رفع الإنفاق لضمان بقاء الولايات المتحدة في الحلف، تجد نفسها في مأزق حاد بين متطلبات الدفاع من جهة، وضغوط الميزانيات وواقع الإنتاج الصناعي من جهة أخرى. وقد ظهر هذا الانقسام بوضوح في خلافات حول الجدول الزمني لتحقيق هدف 5%، حيث اقترح البعض عام 2032، بينما طالبت دول أوروبية شرقية وأعضاء جدد كإستونيا والسويد بتحقيق الهدف في أقرب وقت، حتى عام 2030 أو قبله.
يرى محللون أن هذا الانقسام يعكس فجوة أوسع بين رؤيتين: أوروبا الغربية الحذرة والمثقلة بالالتزامات الاجتماعية، وأوروبا الشرقية القلقة من التهديد الروسي المتصاعد بعد حرب أوكرانيا، والتي ترى أن رفع الإنفاق الدفاعي ضرورة وجودية وليست مجرد استجابة لضغوط أميركية.
حل وسط
هذا السياق، قدم الأمين العام للحلف، مارك روته، مقترحاً وسطاً يهدف إلى تفادي الانقسام، من خلال رفع الإنفاق إلى 3.5% كنفقات دفاعية مباشرة، تضاف إليها 1.5% للإنفاق الأمني الأشمل، بما في ذلك الأمن السيبراني والبنى التحتية الحرجة. هذا الاقتراح يلقى قبولاً جزئياً، لكن لا يزال يثير تساؤلات حول التعريف الدقيق لـ"الإنفاق الأمني"، وسط محاولات دبلوماسية لصياغة تعريف مشترك يراعي الفروقات الوطنية ولا يسمح بتجاوز الهدف الحقيقي.
إعادة هيكلة الردع العسكري للناتو
الاجتماع الوزاري في بروكسل لم يقتصر على الجدل المالي، بل شهد أيضاً توافقاً على ما وصفه روته بـ"أهداف تاريخية" جديدة، تشمل عدد القوات والأسلحة والذخائر التي يجب أن توفرها كل دولة ضمن خطة "أهداف القدرات". وتشير الخطة إلى سعي الحلف لتوفير نحو 300 ألف جندي جاهزين للانتشار على الجناح الشرقي خلال 30 يوماً، وهو تحدٍّ لوجستي وعسكري كبير يتطلب استثمارات ضخمة وتوسيعاً للبنية التحتية الدفاعية.
كما تشمل الخطة شراء معدات متقدمة مثل الدفاعات الجوية والصاروخية، الطائرات المسيّرة، المدفعية، ووسائل النقل الجوي والتزود بالوقود، بهدف رفع جاهزية الحلف لمواجهة أي تهديد في المدى المتوسط والبعيد، سواء في القطب الشمالي أو الأطلسي أو جنوب أوروبا.
دلالات سياسية واستراتيجية
إن إصرار ترمب وحلفائه الجمهوريين على هدف 5% يتجاوز مجرد الإنفاق، ليعكس رؤية أميركية ترى في الناتو تحالفاً يحتاج إلى "إعادة تموضع" استراتيجي، حيث تتحمل أوروبا عبئها الأمني بجدية أكبر. ويرى دبلوماسيون أن السماح لترمب بتحقيق "نصر رمزي" من خلال تبنّي هدف 5% قد يكون ثمناً سياسياً مقبولاً مقابل ضمان استمرار الالتزام الأميركي، خاصة في حال عودته إلى الرئاسة.
من ناحية أخرى، فإن قمة لاهاي قد تُسجل نقطة تحول مهمة في مسار الحلف، سواء عبر إعلان جدول زمني ملزم للإنفاق الدفاعي، أو من خلال إعادة تعريف مهام الناتو وتوزيع الأدوار بين أوروبا وكندا والولايات المتحدة، بما يحقق توازناً أكثر عدالة وفعالية.