الأكراد ودمشق.. مفاوضات الإدارة الذاتية في ظل معارضة مركزية وتعقيدات إقليمية

في خضم التحولات العميقة التي تشهدها الساحة السورية بعد الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، برزت المسألة الكردية كأحد أبرز التحديات السياسية التي تواجه مستقبل البلاد. فالأحزاب الكردية السورية، التي عانت لعقود من التهميش السياسي والثقافي في ظل حكم البعث، تسعى اليوم لترسيخ مكتسباتها الميدانية من خلال طرح مشروع إدارة ذاتية في شمال شرق سوريا، وهي خطوة تصطدم برفض قاطع من الحكومة المركزية في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
يأتي هذا التحرك الكردي في سياق ما وصفه مراقبون بمحاولة "تكريس أمر واقع سياسي وعسكري"، بعد أن لعبت القوى الكردية، وعلى رأسها "قوات سوريا الديمقراطية"، دوراً محورياً في محاربة تنظيم داعش، بدعم مباشر من الولايات المتحدة. وقد استثمر الأكراد هذا الدور لبناء مؤسسات مدنية وأمنية في مناطقهم، مهددين بتغيير جذري في طبيعة العلاقة التقليدية بين المركز والأطراف في الدولة السورية.
وثيقة كردية موحدة ومبادرة تفاوضية
في تطور لافت، تمكنت الأحزاب الكردية المتنافسة – وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي – من الاتفاق على "رؤية سياسية مشتركة"، تدعو إلى دمج المناطق ذات الغالبية الكردية ضمن إطار فيدرالي داخل الدولة السورية. هذه الوثيقة، وفقاً لتصريحات آلدار خليل، القيادي البارز في حزب الاتحاد الديمقراطي، ستكون القاعدة الأساسية التي سينطلق منها وفد كردي مرتقب في حواره مع دمشق.
لكن الطريق إلى دمشق محفوف بالتعقيدات؛ فخليل نفسه يعترف بأن موقف الحكومة "لا يزال متصلباً"، في إشارة إلى الجمود الذي خيم على المفاوضات منذ اتفاق مارس الماضي، الذي نصّ على دمج بعض الهياكل الإدارية والأمنية الكردية ضمن مؤسسات الدولة، دون أن يُفضي إلى خطوات تنفيذية ملموسة.
دمشق ترفض "الأمر الواقع".. والأكراد يردّون: لسنا طرفاً منفصلاً
الرد الرسمي من جانب الشرع لم يتأخر، إذ أصدر مكتبه بياناً يرفض أي محاولة "لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات فيدرالية أو إدارة ذاتية دون توافق وطني". بالمقابل، ترفض القوى الكردية الاعتراف بالإعلان الدستوري الذي صاغته حكومة الشرع، وتعتبره محاولة للالتفاف على مطالبها. ويؤكد خليل أن مشاركة الأكراد في رسم مستقبل سوريا ينبغي أن تكون قائمة على الحوار والتوافق، محذراً من أن "أمن وسلامة المنطقة لن تضمن إلا بإقرار دستوري واضح لدور قواتهم الأمنية".
البعد التركي.. عقدة أمنية خارجية تُهدد الاستقرار الكردي:
المعادلة الكردية السورية لا تنفصل عن البُعد الإقليمي، لا سيما التركي. فأنقرة، التي لطالما عارضت أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي في سوريا، ترى في تطور الوضع الكردي في الشمال الشرقي تهديداً لأمنها القومي، بسبب الصلات الوثيقة التي تربط حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني. ورغم إعلان الأخير وقف القتال ضد الدولة التركية، لا تزال الشكوك التركية قائمة، وقد عبّر عنها الرئيس رجب طيب أردوغان بوصفه الفيدرالية الكردية "مجرد حلم".
اختبار معقد
تمثل المبادرة الكردية بالتوجه إلى دمشق اختباراً معقداً لمستقبل سوريا ما بعد الأسد. فالتوتر بين الرغبة الكردية في انتزاع اعتراف رسمي بإدارتهم الذاتية، وبين إصرار النظام المركزي على الحفاظ على وحدة الدولة التقليدية، يكشف عن فجوة سياسية يصعب ردمها دون تدخلات إقليمية أو رعاية دولية. في الوقت ذاته، يبقى الدور التركي عاملاً ضاغطاً يُعقّد الحسابات الكردية، ويجعل من معركة الإدارة الذاتية معركة مزدوجة: مع دمشق من جهة، ومع أنقرة من جهة أخرى.
وبين حلم الفيدرالية وواقع الجغرافيا السياسية، يبقى مستقبل المناطق الكردية في سوريا معلقاً على قدرة الأطراف على التفاوض دون أوهام، وعلى أساس واقعي يأخذ بعين الاعتبار توازنات الداخل والخارج.