ليبيا بين فوضى طرابلس واستعراض بنغازي.. وطن مأزوم في انتظار دولة

منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011، تعيش ليبيا حالة من الانقسام السياسي والأمني، لم تفلح أي مبادرة داخلية أو أممية في احتوائها. ومع كل محاولة لتثبيت الاستقرار، تنفجر موجة جديدة من الفوضى، تعيد خلط الأوراق وتبدد الآمال بإعادة توحيد مؤسسات الدولة. وآخر تلك الموجات تفجّرت في الغرب الليبي عقب اغتيال القيادي الأمني عبد الغني الككلي، في 12 مايو 2025، ما أدخل العاصمة طرابلس في حلقة جديدة من الاحتجاجات والصدامات المسلحة.
طرابلس على فوهة انفجار.. الشارع منقسم والرصاص حاضر
اندلاع الاشتباكات العنيفة في طرابلس بعد مقتل الككلي أعاد مشهد الفوضى الأمنية إلى الواجهة، وسط دعوات شعبية لإسقاط حكومة عبد الحميد الدبيبة، التي سبق للبرلمان أن أقالها. إلا أن هذا الحراك لم يكن موحّداً، إذ خرجت في الوقت ذاته مظاهرات داعمة للحكومة، ما يعكس انقسامًا شعبيًا حادًا يُعيد إنتاج الانقسام السياسي على الأرض.
وتحوّل ميدان الشهداء في وسط طرابلس إلى صورة مصغرة للصراع الوطني: معسكر يطالب بتشكيل حكومة موحّدة تُشرف على انتخابات طال انتظارها، وآخر يتمسك بالدبيبة كضامن للاستقرار النسبي، في ظل غياب الثقة بالبدائل. وفي هذه البيئة المشحونة، لا يبدو أن أحدًا يُمسك بزمام الأمور، ما يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات الانفجار الشعبي أو المواجهة المسلحة.
غياب خارطة طريق.. مؤسسات مفككة وشيفرة مفقودة للحل
الانسداد السياسي في ليبيا لا يقتصر على الشارع، بل يُجسد حالة التآكل التي أصابت البنية المؤسسية نفسها. فبين حكومة الدبيبة في الغرب، وحكومة أسامة حماد المدعومة من البرلمان في الشرق، تبدو السلطة التنفيذية منقسمة بالكامل، في ظل برلمان ومجلس دولة لم ينجحا في التوافق على قاعدة دستورية تنهي المرحلة الانتقالية.
وتتفاقم هذه الأزمة مع غياب أي توافق حول آليات تنظيم الانتخابات، وتضارب المرجعيات الدستورية والتشريعية، وتعدد الميليشيات المسلحة، ما يجعل كل مبادرة للحل رهينة لحسابات فئوية محلية، وتقاطعات إقليمية ودولية.
الشرق الليبي يبعث برسائل "القوة والانضباط"
في المقابل، يبدو الشرق الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في لحظة استعراض لقوته واستقراره النسبي. ففي الذكرى الحادية عشرة لانطلاق "عملية الكرامة"، نظم الجيش الليبي استعراضًا عسكريًا ضخمًا في بنغازي، حضره مسؤولون بارزون من مصر وروسيا وتشاد والنيجر وبيلاروسيا، في مشهدٍ يُراد له أن يكون رسالة إلى الداخل والخارج.
كلمة حفتر في هذا العرض كانت مُحملة بدلالات سياسية وعسكرية: التأكيد على وحدة الأراضي الليبية، الدعوة للاستعداد لمواجهة التحديات، والتلميح إلى أن الجيش الوطني هو الحامل الفعلي لأمان ليبيا ومستقبلها، وليس الكيانات السياسية المتصارعة في طرابلس.
الرسائل الإقليمية والدولية.. هل يعاد تموضع الفاعلين؟
يرى محللون أن هذا الاستعراض لم يكن مجرد عرض عسكري، بل كان بمنزلة "بيان سياسي مصوَّر"، أراد من خلاله حفتر التذكير بأنه ما يزال جزءاً أساسياً في المعادلة الليبية، ولا يمكن تجاوزه في أي تسوية قادمة.
الباحث الليبي محمد امطيريد يقرأ في الحدث رسالتين واضحتين: للداخل، مفادها أن الشرق مستقر ويملك جيشاً منضبطاً، بينما الغرب غارق في الفوضى؛ وللخارج، أن بنغازي جاهزة لملء الفراغ، إذا سقطت حكومة الدبيبة، وأن الرهان الحصري على طرابلس قد لا يكون مجدياً.
ويدعم هذا التفسير الحضور اللافت لممثلين عن روسيا ومصر في الصفوف الأمامية، ما يُلمّح إلى تحركات دبلوماسية غير معلنة لإعادة تشكيل المحاور الإقليمية، وربما تمهيدًا لإعادة طرح حفتر كطرف يمكن الاعتماد عليه في ملفات الأمن، والهجرة، ومكافحة الإرهاب.
الشارع الليبي بين الحراك الشعبي و"توازن الرعب"
ومع عودة الحراك الشعبي إلى طرابلس، تزداد تعقيدات المشهد. إذ لم تعد المواجهة بين سلطتين فقط، بل أصبح الشارع نفسه ساحة لصراع متقابل: مظاهرات متناقضة، شعارات متعارضة، واحتجاجات مرشحة للتصعيد.
ويرى المحلل السياسي محمد محفوظ أن صوت الشارع الليبي، الذي غاب طويلاً، بدأ يعلو مجددًا، ليُطالب بتغيير كل الأجسام السياسية القائمة. لكنه يحذّر في الوقت ذاته من أن تجاهل هذا الصوت قد يُفضي إلى فراغ مؤسساتي قاتل، يدفع البلاد نحو مزيد من الفوضى والمواجهات المسلحة، إذا لم يتم التعاطي مع المطالب الشعبية عبر خارطة طريق سياسية شاملة.
السيناريوهات المقبلة.. بين الانفجار والاحتواء المشروط
السيناريوهات المستقبلية تبقى مفتوحة، وفق مراقبين. فإما أن تتطور المظاهرات في الغرب إلى حراك واسع يُسقط الحكومة، أو أن يتم احتواؤها بإجراءات شكلية قد تؤجل الأزمة دون حلها. أما أخطر السيناريوهات، فهو دخول البلاد مجددًا في حرب أهلية، خاصة مع وجود تشكيلات مسلحة على أهبة الاستعداد، وشحن إعلامي متبادل، وفقدان أي مرجعية جامعة.
وفي ظل هذا المشهد الممزق، تحاول الأمم المتحدة إعادة ضبط العملية السياسية عبر خارطة طريق جديدة تقود إلى انتخابات طال انتظارها. لكن نجاح هذه الخطوة مرهون بإرادة الفاعلين المحليين، وتوازنات القوى الإقليمية، وموقف العواصم الدولية التي قد تعيد حساباتها في ضوء "انهيار الثقة" في حكومة طرابلس، و"صعود لغة السلاح" في الشرق.