الإدارة الذاتية في دمشق.. بين حلم اللامركزية وواقع المركزية.. مفاوضات شاقة على طريق الدمج السوري

شهدت العاصمة السورية دمشق مطلع يونيو 2025 لقاءً وُصف بالتاريخي، جمع بين مسؤولين من الحكومة السورية ووفد رفيع المستوى من «الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا» بقيادة القيادية الكردية فوزة يوسف. جاء اللقاء تتويجاً للاتفاق الموقَّع في مارس الماضي بين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع والقائد العام لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) مظلوم عبدي، برعاية أميركية، واضعاً أسس مرحلة انتقالية جديدة في مستقبل العلاقة بين المركز والأطراف.
1. السياق السياسي: خارطة معقدة وتوازنات هشة
تنبع أهمية هذا اللقاء من كونه محاولة نادرة لبناء مسار تفاوضي مباشر بين السلطة المركزية في دمشق وممثلي الإدارة الذاتية التي نشأت عام 2014 وتحكم مناطق ذات أغلبية كردية وأقليات متنوعة في الشمال الشرقي السوري. اللقاء جرى بعلم ومباركة التحالف الدولي والولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية، ما يضفي عليه بعداً دولياً، ويضعه في خانة محاولات تدويل الحل السوري تحت مظلة تسوية سياسية شاملة.
2. بنود الاتفاق: الطموح الجامح أم إعادة تأهيل؟
ينص الاتفاق على دمج مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية والعسكرية في هياكل الدولة السورية، ويتضمن إنشاء لجان فرعية متخصصة في ميادين الإدارة، والتعليم، والأمن، والاقتصاد. إلا أن الرؤية الكردية لهذا الدمج تتباين جذرياً عن مقاربة دمشق؛ فبينما ترى الحكومة أن الدمج يعني إلغاء الكيانات القائمة وإعادة الضم الكامل تحت مظلة الوزارات المركزية، تصر الإدارة الذاتية على أن التكامل يجب أن يحترم الخصوصية المحلية ويُبقي على الكيانات القائمة بوصفها جزءاً من نظام لامركزي ديمقراطي.
3. العقبات الجوهرية: دمج قسد معضلة أمنية وسياسية
من أبرز نقاط التوتر مسألة دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في وزارتي الدفاع والداخلية. فوفق رؤية فوزة يوسف، لا يمكن التعامل مع "قسد" كفصيل مسلح تقليدي، إذ أنها نواة لجيش منظم مدرَّب من قبل التحالف الدولي، ومنضبط تنظيمياً، وقد أثبت فاعليته في حماية الحدود ومكافحة الإرهاب. دمشق، في المقابل، تتوجس من منح "قسد" دوراً مستقلاً ضمن منظومة الجيش السوري الموحد، وترى في هذه الخطوة خطراً على وحدة القرار العسكري والسياسي.
4. مسألة الزمن: بين تعقيد التنفيذ واستعجال الجدول الزمني
رغم توقيع الاتفاق في مارس، تعاني عملية التطبيق من تباطؤ واضح، وهو ما أقرّت به القيادية الكردية، خاصة فيما يتعلق بملفات معقدة كدمج القوات، تبييض السجون، وإعادة تأهيل المخيمات. الإطار الزمني الموضوع لتنفيذ الاتفاق بنهاية 2025 يبدو متفائلاً أمام هذه التحديات، خصوصاً أن العديد من القضايا، كتنظيم الامتحانات المدرسية، لا تزال بدون حل رسمي رغم اقتراب موسمها.
5. الملف الدستوري: اللامركزية في مواجهة المركزية الصلبة
من أبرز التحفظات التي نقلها وفد الإدارة الذاتية هو الاعتراض على الصيغة الحالية للإعلان الدستوري. الإدارة ترى أنه يُكرّس الحكم المركزي ويقصي التعددية، مطالبةً بإعادة صياغته ليكرّس لامركزية سياسية حقيقية، واحترام حقوق المكونات القومية والدينية والإثنية. وقد ألمحت فوزة يوسف إلى إمكانية مشاركة الإدارة في البرلمان الجديد، إذا ضُمنت هذه المبادئ في النصوص الدستورية.
6. الثروات الطبيعية: صراع السيادة والموارد
يُعد الملف الاقتصادي والموارد أحد أعقد الملفات؛ إذ تسيطر «قسد» حالياً على نحو 85% من النفط و45% من الغاز السوري، ما يمنحها ورقة قوة كبيرة في المفاوضات. دمشق تسعى لإعادة السيطرة الكاملة على هذه الموارد، في حين تُطالب الإدارة الذاتية بتقاسمها ضمن آلية تضمن تنمية المنطقة واستقلالها النسبي الاقتصادي، وهو مطلب يثير حساسية شديدة لدى الدولة المركزية.
7. نظرة تحليلية: بين الانفصال الظني والتكامل المشروط
رغم الاتهامات المتكررة للإدارة الذاتية بالسعي إلى الانفصال، فإن وجود وفدها في دمشق والتفاوض على الدمج هو بحد ذاته مؤشر على تمسكها بالبقاء ضمن إطار الدولة السورية. غير أن هذا "التمسك" مشروطٌ بمكاسب حقيقية في الحوكمة والتمثيل السياسي والاعتراف بالخصوصيات الثقافية واللغوية للمناطق التي تديرها، وهي شروط تتطلب تعديلات جوهرية في البنية الدستورية والسياسية لسوريا ما بعد الحرب.
نحو تسوية شاقة ومفتوحة على المجهول
اللقاء بين دمشق والإدارة الذاتية خطوة جريئة ولكن محفوفة بالتعقيدات. نجاح الاتفاق مرهون بمرونة الطرفين، وبدعم إقليمي ودولي مستدام، وبقدرة القيادة السورية على إعادة هيكلة النظام السياسي بما يراعي التعددية ويؤسس لعقد اجتماعي جديد. أما الفشل، فسيعني انزلاق البلاد نحو جولة جديدة من التوتر وربما التصعيد، في وقت لم تعد سوريا تحتمل مزيداً من التشظي.ك